-مثقفو الشتائم والإحباط-
لا يوجد كاتب أو (مثقف) إلّا وكتبَ عن الثقافة والمثقفين، ويبدو أنّه كلما كَثُرت الكتابات حول هذا الشأن كلما ازداد اللبس والغموض حول مفهوم المثقف والثقافة والعلاقة بينهما، والعلاقة بينهما من جانب والسلطة من جانب آخر، مع ما يبدو من غرابة في طرح التساؤل حول علاقة المثقف بالثقافة وهو تساؤل يوحي بإمكانية انتفاء العلاقة بين صنف من المثقفين والثقافة "مثقفون بدون ثقافة ".
مفهوم الثقافة أكثر تطويعاً من مفهوم المثقف للتعريف والحصر، حتى مع التطورات المتسارعة للمجال الإنساني المادّي والمعنوي الذي تشتغل عليه وتتفاعل فيه الثقافة بحيث باتت حسب تعريف البعض طريقة حياة البشر وكلّ ما ينتجه الإنسان مقابل ما تنتجه الطبيعة، وهذا التمدد لمجال الثقافة يجعل كلّ مَن يُنتج أو يشتغل في إحدى مجالاتها المادّية والمعنوية يعتبر مثقفاً، وهذا يعني تجاوز ما هو شائع من أنّ المثقف هو فقط مَن ينتج أو يُبدع في الآداب والفنون.
هذا التمدّد والتوسّع في حقل الثقافة انعكس على تعريف المثقف بحيث تمدّد وتوسّع بدوره وبات أكثر التباساً، وخصوصاً مع تطور وتعاظم الفضاء السيرنيتي، الذي هو مُنتج ثقافي بقدر ما هو مُنتج مادّي تكنولوجي، فهذا الوافد الجديد على الحضارة الإنسانية أزال الحواجز والحدود بين الشعوب والدول، وكسر التراتبية الطبقية والعُمرية، ومكن كلّ مواطن من التواصل مع أعداد هائلة من الأشخاص ومن التعبير عن نفسه وخواطره ومواقفه بوسائل تعبير متعددة وسهلة دون حواجز أو عقبات بغض النظر عن مؤهلاته وقيمته العلمية والفكرية.
بل أحياناً يخسر المثقف الحقيقي أية معركة يفكر بخوضها أو محاولة إظهار الذات والانتشار عبر مواقع التواصل الاجتماعي مع أشخاص أقل قيمة منه بالمقاييس الثقافية التقليدية، حتى يمكن القول إنّ مواقع التواصل الاجتماعي خدمت أشباه المثقفين أكثر مما خدمت المثقفين الحقيقيين، وخلقت حالة من التسيب والتسطيح للثقافة وخصوصاً الوطنية. بالإضافة إلى أنّ مفتي الإسلام السياسي المدعومين سياسياً ومالياً حلو محل المثقفين، ومثقفو الإثارة عبر وسائل التواصل الاجتماعي طغوا على مثقفي المشاريع الثقافية والإبداعات الحقيقية.
مع أنّ العلاقة بين المثقف والثقافة علاقة الحامل والمحمول، حيث المثقف يحمل ثقافة مجتمعه، أو الثقافة الإنسانية، ويعبّر عنها مدافعاً أو منتقداً بكلّ الوسائل المتاحة، إلّا أنّ إشكالاً كان ومازال مطروحاً وهو نسبة التأثير والتأثر بين الطرفين، وهل المثقف مجرد حامل لثقافة البيئة التي يعيش ويتفاعل معها وعليه الخضوع لها والتكيف معها؟ أم إنّه مؤثر فيها موجهاً لمساراتها واهتماماتها مقاوماً لإعوجاجاتها وانحرافاتها؟ وتفرض هذه التساؤلات نفسها خصوصاً في مجتمعاتنا العربية حيث تنتشر ثقافة العنف وتسييس الدين لدرجة تكفير المجتمع والحاكم، وتسطيح الفكر، وتشويه الثقافة الوطنية والقومية الجامعة، واختلال المنظومة الأخلاقية، وانتشار ثقافة الإحباط والتيئيس، وارتباط النخب السياسية والاقتصادية بالخارج، وقوة تأثير المال السياسي على كلّ الحوامل المكتوبة والمرئية للثقافة.
لاشك أنّ المثقف الحقيقي هو المثقف النقدي والصدامي والطليعي، مثقف العقل لا النقل، المثقف القريب من حس وضمير الشعب وليس مثقف السلطة والسلطان أو المثقف المتعالي عن الشعب، مثقف الإبداع والإنتاج وليس مثقف الإثارة وتظهير الذات، المثقف ضمير الأُمة والملتزم بقضايا شعبه. ولكن هذا التنميط بحدّ ذاته لا يخلو من لبس ومن منزلقات أخلاقية ووطنية، وأبسط سؤال يفرض نفسه في هذا السياق: مَن الذي يحدد مفهوم قضايا الأُمة ومصلحتها الوطنية في ظل غياب الديمقراطية؟.
فأن يُعرف المثقف بأنّه نقدي وطليعي فهذا لا يعني فقط أن يكون دائماً في موقع المعارضة للسلطة أية سلطة، فالعلاقة بين السلطة والشعب أو على الأصح مَن يدعون النطق باسم الشعب، ليست مفروزة أو مُندرِجة في إطار استقطاب بحيث تتموقع السلطة كعالم الشياطين والناطقون باسم الشعب كعالم الملائكة، وخصوصاً أنّ مفهوم الشعب ومفهوم السلطة في عالمنا العربي يشوبهما كثير من اللبس والغموض وخصوصاً في السنوات الست الأخيرة.
أيضاً حتى وإن كانت أخطاء السلطة لا حجاج فيها، وهي كذلك في عالمنا العربي، إلّا أنّ ممارسة المثقف للنقد يجب أن لا يتجاوز تخوم البعد الأخلاقي المفترض أن يكون عليه المثقف، فالمثقف منظومة متكاملة من المعرفة والعلم والإبداع والأخلاق أيضاً، وهذا يتطلب حسن اختيار المثقف لكلماته أو أي شكل من أشكال التعبير – لوحة فنية أو كاريكاتير أو أغنية – فيبتعد عن القذف والشتم أو التخوين والتكفير بشكل مباشر.
ليس صحيحاً أنّ المثقف النقدي والعضوي والطليعي هو الأكثر ضجيجاً وشتماً وصداماً مع مخالفيه في الرأي أو تجاه السلطة، فهذا السلوك قد يُشهر (المثقف) وقد يُحرج معارضيه والسلطة ولكن لحين من الوقت، إلّا أنّه لن يخدم كثيراً القضية التي يدافع عنها وخصوصاً عندما يوظف الأعداء مثل هؤلاء المثقفين للإساءة للشعب والوطن، وفي بعض الحالات يفسّر الناس موقفه وكأنّه ردة فعل شخصية انتقامية على سلوك تعرض له من السلطة. المثقف الشتام واللعان قد يخدش السلطة ويثير غضبها، ولكن تأثيره يزول بزوال غضبه وغضب السلطة، أما المثقف المتزن والهادئ فإنّ تأثيره يكون أكثر عمقاً حيث يتعامل مع عقل المتلقي لا عواطفه وغرائزه، وينسف المرتكزات والأُسس التي تعتمد عليها السلطة القمعية والفاسدة لتبرير حكمها وهيمنتها.
هناك نوع آخر من المثقفين، أولئك الذين لا يرون من المشهد إلّا كلّ ما هو سلبي ومُحبِط، أو نصف الكأس الفارغة دون النصف الآخر، وبالتالي تعكس وتعبّر كتاباتهم أو وسائل التعبير الخاصّة بصنفهم الثقافي حالة من الإحباط واليأس، وهذا ما يُسقِط عنهم أهم ميزة للمثقف حتى المثقف العضوي بمفهوم المفكر الإيطالي انطونيو غرامشي، فهذا الأخير هو الذي كتب عن "تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة ".
صحيح، إنّ الحالة العربية رديئة على كافة المستويات، والأسباب فيها ما هو داخلي وما هو خارجي حيث لا يمكن إسقاط التآمر على الأمة العربية، ولكن هذا لا يبرر أن نهجر ثقافتنا وتاريخنا ومشروعنا القومي العربي. يمكن أن نتفهم حالة الإحباط واليأس عند المواطن العادي والتي تلخص بالمثل الشعبي "مفيش فايدة"، ولكن لا يجوز ولا يمكن أن نفهم أو نتفهم أن يكون ذلك موقف المثقف. على المثقف إن كان ملتزماً بثقافته وهويته وانتمائه الوطني والقومي أن يشخّص وينتقد ما آل إليه الحال، وفي نفس الوقت يطرق باب الأمل بالمستقبل ويضع للشعب خارطة طريق للخروج من المأزق، فالفعل الثقافي ليس مجرد وظيفة أو ترف فكري بل مهمة نضالية لا تعرف الطريق المسدود .
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق